الاثنين، 13 أبريل 2015

إبن تيمية والقزم الأحمق

ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتُبيّن له المحجّة..ومن ثبت إسلامه بيقين..لم يزُل عنه بالشك..ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة..والتكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعيّن..وتكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن..إلا إذا وجدت الشروط وإنتفت الموانع..وهي أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة "الوعيد"..فمسألة الوعيد في القرآن مطلقة كقول الله "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا"..ولكن الشخص المعيّن آكل مال اليتيم أمام الله قد يزول عنه الوعيد بتوبة أو بحسنات تمحو السيئات أو بمصائب تكفر ذنوبه أو بشفاعة مقبولة..ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم البعض..ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخَطّئون الخاطيء ولا يُكفّرون..وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً..وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العدل والرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة ويعدلون لمن خرج منها ولو ظلمهم..ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ولا يقصدون الشر لهم إبتداءاً..وليس كل من خالف في شيء من الإعتقاد يجب أن يكون هالكاً..فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً..فله أجر والله يغفر له خطأه..وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم عليه به الحجة..وأما التكفير فالصواب أن من إجتهد من أمة محمد وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه..ومن تبين له ما جاء به الرسول وقامت عليه حجته فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى وإتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر..ومن إتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب..ثم قد يكون فاسقاً..وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته..فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل يكون كافراً بل ولا فاسقاً بل ولا عاصياً..(إنتهى كلام إبن تيمية)
قد يعجب الكثير من الناس عندما يعلم أن الكلام السابق هو كلام إبن تيمية كما ورد في كثير من كتبه وبخاصة "الفتاوى"..ذلك الشيخ الجليل العالم الفقيه الزاهد المجتهد المجدد المجاهد بالسيف واللسان والقلم..لأن الكلام الذي يدور في هذا الزمان السوء على ألسنة الرعاع  والأقزام من أمثلة "البحيري" يشير إلى شيخ الإسلام إبن تيمية بأصابع الإتهام بأنه مبتدع التكفير والأب الروحي للجماعات التكفيرية والخوارج ومن حذا حذوهم ونهج نهجهم..ما هم إلا صبيان يلعبون بجانب الشيطان الأكبر-ابن تيمية- الذي قاد مسيرتهم وإستندوا إليه وإلى فتاواه في كل عمل شيطاني وتكفيري أهدر دماء المسلمين وغير المسلمين..والحق أن أقوالهم تدل يقيناً أنهم لم يقرأوا كتاباً لإبن تيمية..وإنما قرأوا عن إبن تيمية..أي ما كتبه أمثالهم عن إبن تيمية..وما نقلوه-كذباً-على لسانه..ولو كان قصارى جهدهم القراءة فقط لأدركوا أن إبن تيمية أبعد ما يكون عن التكفير و الإندفاع في الأحكام وإهدار الدماء..وأظن أني لن أبالغ لو قلت أن 95% من المتهمين لإبن تيمية بأنه مرجع الجماعات التكفيرية..لا يعلمون شيئاً عن فتواه التي تستند لها الجماعات التكفيرية..ولا يسعهم إلا أن يغوصوا في بطون الكتب ليستخرجوا أقوالاً يتصيدون ألفاظها ليلعبوا على وتر الإرهاب وكيف أنه هو الذي مهد الطريق للتشدد والتعصب بغير النظر حتى لما يعرفه كل عليم بالفتوى..أن نصف الفتوى إنما تقع على عاتق السائل..فهناك من يسأل سؤالاً ليعرف الحق وكفى..وهناك من يسأل المفتي ليخرج منه جواباً بعينه..فإن لم يجبه به لف ودار وكر وفر ولفق موقفاً ضيقاً في السؤال حتى يُحفه بالمسألة فيجيبه بما يريد..إنهم لم يقرأوا لإبن تيمية نفسه..ولم يعرفوا فكره وفقهه رحمه الله وجزاه عن المسلمين بعده خير جزاء..وخلاصة القول أن مستند أهل التكفير للتكفير إنما يسندونه لإبن تيمية من فتواه في أهل "ماردين"..ووالله لو قرأوا فتواه في أهل ماردين لعرفوا أن إبن تيمية بريء من الدماء التي رموه بها طيلة نصف قرن.. وقبل ذكرالنص يجب أن نتأمل في السؤال كيف أن السائل قد يكون مستفزاً وملحاً وكأنه يريد أن يسقط المفتي في فخ ليقول شيئاً بعينه يريدالسائل أن يسمعه..
ونص الفتوى هو:"سئل إبن تيمية عن بلد ماردين هل هي دار حرب أم دار سلم..وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا..وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أوماله  فهل يأثم..وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه أم لا؟؟
وكان رد إبن تيمية.."الحمد لله..دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها..وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة..سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم..والمقيم بها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه..وإلا إستُحبت ولم تجب..ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم..ويجب عليهم الإمتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب أو تعريض أو مصانعة..فإذا لم يمكن إلا بالهجرة..تعينت..ولا يحل سبهم عموماً ورميهم بالنفاق..بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة..فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم..وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة..فيها المعنيان..ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين..ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار..بل هي قسم ثالث يعامل فيها المسلم بما يستحقه..و(يعامل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"
هذه هي الفتوى التي صنعت الإرهاب..كذا وردت الفتوى في كتاب "الأداب الشرعية"..وفي كتاب "الدرر السنية"..وكذا هي في المخطوطة الأصلية والوحيدة للفتاوى..وكما نرى ليس في الفتوى ما يهدر الدماء..لا دماء أهل ماردين المسلمين..ولا دماء حكامهم التتار..ولهذا لم يكن للفتوى أي مردود أصلاً في عصر إبن تيمية الذي كان من أشد أعداء التتار وكان يجاهدهم بالسيف واللسان..وأنكر أن ماردين التي يحكمها التتار دار حرب لأن أهلها مسلمون..وظلت الفتوى على حالها و ظل إبن تيمية شيخاً للإسلام..حتى 90 عاماً مضت حيث ورد خطأ مطبعي نتج عنه تصحيف كلمة في طبعة الفتاوى التي طبعها "فرج الله الكردي"..فطبع كلمة "يعامل" الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه "يقاتل"..وتبعه من بعده في طباعة الفتاوى من نسخته بغير تحقيق المخطوطة ولا إعتبار ورود الفتوي بلفظ "يعامل" في الدرر السنية أو الأداب الشرعية لأن "الفتاوى" لم يحقق قبل الطباعة..فاتخذها " التكفيريون في الستينيات أساساً لقتال ولي الأمر بل لقتال المخالفين لشريعة الإسلام..بل يكاد كتاب"الفريضة الغائبة "أن يكون هامشاً شارحاً للفتوى الماردينية..رغم أن إبن تيمية حرم دماء أهل ماردين..وكانوا مسلمين وكانوا محتلين من التتار وكان التتار يحكمون بكتاب جنكيزخان ويتخذوه دستوراً هو والعرف..دون أي شريعة برغم إظهار بعضهم الإسلام..وبرغم أن إبن تيمية كما قلنا لم يذكر في فتواه قتالاً إلا أن الفتوى في النهاية بهذا اللفظ الذي ورد تصحيفاً-يقاتل- تسترعي التفكير..فهي بلفظ "يقاتل" تناقض أولها الذي ذكر حرمة الدماء..وأمر أهلها بالتصنع والمداهنة للحاكم المتغلب لكي لا يضيق عليهم عيشهم أو يذيقهم من صنوف العذاب لما في التتار من جور وظلم..كما أن اللفظ نفسه "يقاتل بما يستحق" تركيب لغوي خاطئ لا يقع من إبن تيمية..فالقتال لا يوصف ب "بما يستحق"..فليس هناك مقاتلة للعدو بما يستحق ومقاتلة" نص نص"..فكان على الأغبياء الذين إتخذوا الفتوى ذريعة لجهاد المسلمين وقتلهم أن يفكروا دقيقة قبل الإقدام..أو حتى يسقطوا القتال على مقاتلة المحتل "التتار"..وكان على الأقزام الذين إدعوا على إبن تيمية إهدار الدماء أن يراجعوا الفتوى الماردينية أو كما يطلق عليها "فتوى التتار" قبل أن يندفعوا ويرموا إبن تيمية بكل سوء وظلم وبهتان..وقد إنعقد مؤتمر في ماردين نفسها عام 2010 لتحقيق المخطوطة الأصلية للفتاوى..فكانت النتيجة أن اللفظ ورد فيها "يعامل" وليس "يقاتل" كما ورد في مخطوطات "الأداب الشرعية" و"الدرر السنية"..وظهرت براءة إبن تيمية بعد ستين عاماً من الظلم والبهتان..
إن بإمكاننا الجزم أن شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله لما كان عليه من علم وعمل وجهاد وحمله مسؤلية مواجهة البدع والفرق الضالة في كل مكان..مع ما كان عليه من قوة حجة وبيان..ورجاحة عقل وفصاحة لسان..وإكتساحه ساحات المناظرة مع رؤوس الفرق الضالة الذين ملأوا ذلك الزمان..فكان له من الأعداء من معاصريه الكثير من حاسد وحاقد مهزوم من أهل الأهواء..ومطرود من الرياسة والزعامة بعد نعمة ورخاء..ما جعلهم كادوا له المكائد و أوغروا عليه صدور الملوك..وأشاعوا عنه السوء..وذكروه بكل مكروه..ولكن سبحان المعز المذل..فلا يُذكر اليوم من ذلك الزمان إلا إبن تيمية وعلمه وفقهه..ولازال يشغل العقول والأذهان..بينما يقبع مخالفوه في غياهب النسيان..فلا يكاد يعرف منهم اليوم إسمٌ واحد..ولو ذُكر إنما يذكر بشكل لاحق بفضل عدائه لإبن تيمية..ولكن لا يذكرون بعلم ولا بفضل..وحسبنا من كل ذلك أن إبن تيمية كان إماماً عالماً مجدداً حافظاً لم ينافق ولم يداهن ولم تزل قدمه في دماء حرام..وحسبنا أن نرد عنه كيد الظالمين له بغير علم ولا بينة ولا برهان..وحسبنا أن إبن تيمية سيبقى ذكره وعلمه  ما بقي في المسلمين علم وعمل..وسينتهي ظالموه غير مأسوف عليهم لا ذكر لهم ولا بقاء..وعند الله يجتمع الخصوم.