الخميس، 21 أغسطس 2014

سحر اليهود للنبي..والبخاري..وعقول الأقزام

أثار " أحد الناس" لغطاً كالعادة حول أحاديث البخاري وإتخذ حديث السحر اليهودي للرسول نموذجاً ليشغب به على الإمام الجليل..وعلى كتابه الصحيح الذي هو عمدة الكتب في النقل عن رسول الله..
لم أشرع في كتابة هذا الرد حتى سمعت عالماً نفسياً..يتحدث ويرمي البخاري بأنه سبب الإلحاد في الواقع الحديث..ورأيت العلمانيين يستغلون الموقف ليدعموا به موقفهم السابق المعروف المألوف.. فقد كانت لهم فرصه ذهبية ليلغطوا..ويكملوا طريق الهذيان الذي سلكوه من زمن ولم يرجعوا منه..وأظنهم لن يرجعوا حتى تذهب عقولهم..
ولنتفق مبدئيا على نقاط نعددها ولا نطيل
أولاً :البخاري طبعاً لم يتأثر بأقوال السفهاء الجهلاء في هذا العصر ولا في غيره..فالكتاب صحيح مقبول..والحديث صحيح معقول..والإعتراضات مردودة غير جديدة..ولم تهز الجبل الأشم والصرح العملاق..والبحر الزاخر..البخاري
ولقد سمعت شيخاً مفتوناً يملك عقلاً غير راجح.. ينكر البخاري ..فشهادته التي جعلته شيخاً ليست فرضاً علينا لنقبل منه كلامه..فهو مفتون معروف منذ زمان قريب..وهو من المنكرين للحديث..هذا رأيه.. فلينبذه في الماء وليشرب نبيذه ..
ثانياً:سحر السحرة لموسى كان كما أخبر الله..سحراً لأعين الناس وإسترهاباً لهم..فلم يكن سحراً حقيقياً بتسليط الجن..وإستخدام " أثر " للمسحور..فليس برابط بينه وبين سحر لبيد ابن أعصم للرسول..
نتفق على هذا..ولنشرع في الرد ونسأل الله السداد..
ليعلم إبتداءاً..أن المسحور شخص من إثنين..رجل تأخذ الجن عقله..فيهيم في الطرقات.. يهذي ولا يدري..ورجل تترصده الجن بتسليط ساحر لتؤذيه..كتفريق الأزواج وغيره..
فالعرب كانت تعرف الجن.. وأحوال المجنون " أي المسحور بجن "..ويعرفون عن أحوال الجن والمسحورين ما لا يعرفه شيخنا ولا عالمنا النفسي..وزعمهم أن النبي مسحور..أي أنه يهذي ويهيم في الطرقات بكلام غث تخرجه الجن على لسانه..حتى أتى مكة " ضماد " وهو رجل من أزد شنوءة يرقي من الجن..فقال له القرشيون ومنهم أبو سفيان..لا تلقى محمد ولا تسمع منه فإنه مجنون ..وأخاف أن تصيبك الجن..ولم يكن يعرف مقدرة "ضماد"..فقال ضماد في نفسه والله لأرقين محمداً هذا لعل الله يشفيه على يدي..
فلما ذهب للنبي وسمع منه بايعه على الإسلام وأنكر أن يكون مسحوراً..
الحاصل هنا أن المسحور والذي تتخبطه الجن كالمصروع والمجذوب وغيرهم أنماط معروفة كان العرب يعرفونها ويفطنون إليها..لم تكن مختلطة عن أحد.. وكلها بعيدة كل البعد عن رسول الله ولم تحدث له ولم تظهر عليه أعراض السحر في حياته حتى الممات..وهي التي كان القرشيون يعنونها عند وصفهم للرسول..فقول الجهلاء أن الحديث يثبت الأيه " إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً " هو قول رجل جاهل..أصم..أعمى الله قلبه وعقله وجعل على بصره غشاوة..فلا هو يعلم تفسير الأية..ولا عاين مجنوناً في حياته.. ولا عرف من أخبار مكة ولا أخبار الناس ما كانوا يرون في المسحور..وما كانوا يعنونه بوصف الرسول بالمسحور..ولا يعرف الفرق بين المسحور والمريض والسليم..ثم يسمي نفسه عالماً..أو مفكراً..
ونحن نعرف من الروايات المختلفة عن واقعة سحراليهود للنبي..أن ما كانوا يقصدونه ويريدونه - إن لم يكن محمد نبي – أن تذهب الجن بعقله..وهذا ما قالته أخت لبيد بن أعصم اليهودي.. فالسحر الذي صنع للنبي من السحر المائي المعقود الذي كان لا بد أن يذهب بعقله..وفي كتب السحر الكبيرة..ك " منبع أصول الحكمة " و "شمس المعارف الكبرى " وغيرهم..نعلم أن رسول الله بالفعل طبعه مائي عند المنجمين أي أن لبيد إبن أعصم كان سحره للرسول صحيحاً وموجهاً بقوة وموضوعاً في المكان الصحيح..فكان لابد وأن تبدأ التغيرات في الحدوث للرسول - إذا كان رجلاً مسحوراً - كأن يتحول من الهدوء للغضب ومن الطاعة للمعصية ويذهل عقله حتى يذهب بالكامل..
فهل ما حدث لرسول الله هو ما كان منتظراً من سحر لبيد ابن أعصم..إن قصارى ما حدث لرسول الله أنه مرض ورقد أياماً - على الراجح ثلاثة أيام – وليست أشهراً كما قيل..وكان مرضه في الرأس..حتى إحتجم..فلم يظهر عليه من الأعراض أكثر من مرض إستوجب عنده الحجامة في الرأس..ثم كان أنه يخيل له أنه يأتي النساء وما يأتيهم..وهنا اللفظ غير صريح في وصف هل كان يشتهي نساءه ثم يفتر..أم أنه يظن أنه عاشر زوجته ولما يفعل..فعلى إعتبار الأول فهو أمر لا إشكال فيه إذا كان السحر القوي الذي صنع قد بلغت قدراته أبلغ المدى على النبي أن جعله يفتر عن نساءه عند المعاشرة..فهذا قد يحدث للرجال بغير سحر بل قد يحدث من الضغط العصبي أو النفسي أو الأمراض البدنية..وعلى إعتبار الثاني..فلا إشكال أيضاً- وليست كما إدعي عالم النفس المدعي - أن إدراكه وعقله قد إختلط..بل إن التخييل قد يحدث لنا جميعاً..بغير سحر..فكم واحد منا - وهو صحيح معافى - قد إختلط في صلاته وخيل إليه أنه صلى أربع..ولم يصل إلا إثنين..بل قد حدثت لرسول الله نفسه بدون أمراض ولا سحر..فهذا إختلاط مقبول..وهو من جملة إستحواذ النقص على البشر..ومن منا في مرضه الشديد الذي يرقد فيه أياماً..لم يختلط مرة وترد عليه أفكارٌ وأحلامٌ..فإذا تنبه الإنسان تماماً..يسأل هل حدث كذا وكذا..هل فعلت كذا وكذا..فهو يجد صعوبة شديدة في تحديد ما إذا كان الأمر حلماً أم أمر واقع..إنه أمر واقع للجميع بغير سحر..فإذا كان سحر لبيد ابن أعصم..القوي الشديد الذي تشهد به كتب السحر..قد تسلط على رسول الله وكان أبلغ مداه أن جعله يختلط يوماً وهو مريض..كما يختلط الرجل منا وهو غير مسحور..أليس بهذا يكون الله قد عصمه..وأشهد المؤمنين والمسلمين واليهود والنصارى..بل أشهد الجن أنفسهم..أنه عصمه منهم برغم تسلطهم عليه ليذهب عقله..فكان إختلاطه تافهاً سطحياً..لم يروى عنه أنه أبعده عن الصلاة أو ذهل عنها بل نص الحديث أنه إستفتى الله..ودعا ودعا..أي أن عقله كان كاملاً واعياً صحيحاً..متعبداً..لم يختلط ولم يذهب ولم تتلاعب به الجن..بل لم يجعله عليه السلام يشعر بشيء خطير يستدعي أكثر من الحجامة..ثم إستقبل وحياً سليماً غير مختلط – كما يزعمون –بمكان السحر ومن فعله..وكانت الحادثة في بيته وبينه وبين زوجاته وربما كانت السيدة عائشة وحدها..لأنه كان إذا مرض فإنه يبقى في بيتها..خاصة إذا لم يطل به المرض – كما قلنا ثلاثة أيام -..فلم يروي أصحابه أنه خرج عليهم مسحوراً ولا مختلطاً ولا رأوه يهذي..ولا شكوا أنه مريض بعد عودته من خيبر..لهذا فإن الحديث لم يروه جمع غفير من الصحابة – كما إستنكر المنكرون – لأنه لم يكن بالشيء الملفت للصحابة بل كان مرضاًعابراً ألم برسول الله..بل ربما لم يمنع رسول الله عن صلاة الجماعة.. كما لم يمنعه مرض..ولم يؤذ فيها ذلك الفتى اليهودي الخادم..ولم يشأ رسول الله أن يثير على الناس شراً..فكتم الأمر بالجملة..حتى الفتي الخادم لم يرها بوجه رسول الله..والصحابة لم يكونوا كوكالات الأنباء..لينشروا أمراً كتمه رسول الله..بل كانوا يأتمروا بما أمر به بغير عصيان..
ومقام النبوة لا ينال منه أبداً أن الشياطين تحاول التسلط أو الإيذاء..فرسول الله أقر بأن لكل منا شيطان يوسوس له..حتى هو.."ولكن الله أعانني عليه فأسلم"..أي يسلم من وسوسته..فهذا أمر لم ينل من نبوة النبي..بل هو من كمال نبوته..وإثبات الأيه..والله يعصمك من الناس..فلا الناس قتلوه..ولا الجن غلبوه..برغم سحر لبيد بن أعصم الصحيح..
وأنا أعتقد أن المنكرين للحديث ينكرونه..لإنكارهم السحر من الأساس وربما الجن بالكلية..ولكنها خطوة قبل خطوة..فلو أنكروا الجن والسحر..لخرج لهم هذا الحديث..فإنكاره خطوة سابقة لأخرى لاحقة وهي إنكار ماوراء الطبيعة..وعالم الجن نفسه..ولكنها رمية بغير رامي..
تعب رسول الله أياماً ..ففرج الله عنه..وكانت محنته باباً لنعرف منه طرق العلاج وفهماً لعالم لم نكن لنفهمه..ولمعرفة أن الله هو المهيمن المسيطر مهما تسلطت الجن والإنس على أن يؤذوا المؤمن بشيء..لن يفعلوا إلا شيء قد قدره الله وأذن به..فإن دعا العبد ربه ولجأ وتضرع إلى الله..كشف الضر ولو كانت مجتمعة عليه الإنس والجن..فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..هو حسبنا ونعم الوكيل