الجمعة، 27 فبراير 2015

ذلك الكتاب 2 (الأثر يدل على المسير)

نعرف اليوم ويعرف كل من له علم بالأدب واللغة والأساليب والفكر والقصص والرواية أو حتى الكتب العلمية..أن لكل كاتب أسلوب..نعرف به الكاتب..وتكاد بعض النصوص أو الكتب أو المقالات عند قراءتها يعرف كاتبها تلقائياً..وكأنك تراه بين السطور أو تسمع صوته ينطق بالجمل والتراكيب..فلكل كاتب أسلوب وتراكيب وتشبيهات وطريقة في بناء المقال يعرف بها عن غيره..حتى يكاد بعض الكتاب يعرف عنهم ألفاظ بعينها..يكثر من إستخدامها..بل قد ينفرد بها..فكل إناء ينضح بما فيه..والبعرة تدل على البعير..والأثر يدل على المسير..ونعرف أيضاً أن المتابع الجيد لكاتب بعينه إذا قرأ مقالات أو كتب هذا الكاتب في أول حياته أو مطلع شبابه  لوجد إختلافاً جسيماً وفرقاً شاسعاً بين أسلوبه..وتراكيبه..وطريقة البناء وتسلسل الأفكار..في أول حياته عن منتصفها..عن أخرها..فضلاً عن مراجعات الأفكار..وحصيلة الإطلاع الجديد..وزوال الغشاوة..وإتضاح الأفكار التي كانت مشوشة..وإنهيار قناعات..ونشوءغيرها..كل هذا تجده في الكاتب الذي تجمع أفكاره وأعماله الكاملة..في مجلد واحد..تستطيع أن تعرفه في بدايته ونهايته من مدى إتساع الفارق بين هذا وذاك..
نزل القرآن منجماً..عشرون عاماً من التنزيل..والقرآن لا دخل له بكل ما قلنا..
فمهما قرأت القرآن..من أيات الفتح  لأيات التشريع لأيات العهد المكي..لأيات الوعد والوعيد..لا تستطيع –إن لم تكن على علم مسبق –أن تحدد هل الأية نزلت في أول التنزيل أم بعد عشرين عام..إنك تجد  "إقرأ بسم ربك الذي خلق "..وتجد "وإتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"..لا تستطيع أن تحدد من كانت الأولى ومن كانت قبلها بعشرين عاماً..وعلى مدارالقرآن..لا تملك ولا يملك أي إنسان أن يضع يده على أية ويقول إنها مخالفة لسياق القرآن الكلي..أو إنها تدل على نضوج الكاتب خلال عشرين سنة..وحدة واحدة..بنفس القدر من البلاغة والبلاغ..بنفس الإعجاز المذهل..على نزوله في أوقات متفرقة منها الفرح والحزن والضيق والفرج والنصر والحرب والهزيمة والإستشهاد والجدال والإختبار..والكتاب محتفظ في النهاية بشخصية واحدة..ونفس النسق العام والنغم الكلي..بنفس النظم الأخاذ..والإبداع الممتع..فلا شك أن تكون  فيه الدلالة  القاطعة على كاتب لا يمر عليه الزمان و لا تغير تفكيره الأحداث..ولا الأفات..فهو شديد الإعجاز في دلالته على قائله..
وهنا تبرز لنا لطيفة أخرى..فإن القرآن نزوله كان مفاجئاً بشكل دائم..على غير إنتظار..من الرسول ولا من الصحابة..ولا حتى من السائل الذي ربما يكون التنزيل إجابة له..فينفي القرآن نفسه بذلك شبهة التعمد والنظم..والمراجعة..وحسابات الكاتب..ومقابلة الظروف..والتفكير والتأمل في الموقف للخروج بأفضل الحلول..ثم نظمه على وتيرة  تتفق مع شخصية الكتاب وأسلوبه..هذا التقطيع في التنزيل..وهذه الوحدة في الأسلوب من اليوم الأول للتنزيل حتى اليوم الأخير..مع تعدد الأخبار..من قصص أنبياء..لإخبار بمغيبات..لتشريع..لوعد ووعيد..هو حجة قائمة..على من سمعه..ومن نزل عليهم..دليل على من قاله..وعلى أمانة من نزل عليه..وأمانة من نقله إلينا..حرفاً حرفاً..فسبحان الذي أنزله وتعهد بحفظه فحفظه..وأتقن كل شيء عملاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق