ربما يكون هذا المقال هو الأخير في مسألة الحجاب..وسنتعرض فيه إلي
أكبر شبهة تعرض علي العقول في هذا الزمان..
وردت بعض الآثار عن عمر إبن الخطاب كان مفادها أن الجارية يباح لها كشف
شعرها وعليه فإن الشعر ليس من العورة وليس زينة..وأن الحجاب كان مرتبطاً بوجود الإماء
لتفرقتهم عن الحرائر أما الآن فليس لهم وجود..فزالت العلة من وجود الحجاب..كذلك
القول بأن عورة الإماء من السرة للركبة يدل علي أن النساء كن مكشوفات أيام الرسول
ولا داعي للحجاب..إنما كان للحرائر فقط..كذلك عن إبن عمر أنه كان يضع يده على
الإماء في السوق في مواضع ويكشف منها مواضع تدل على عدم حرمة جسد المرأة..كذلك
وردت بعض أسباب النزول تدل على أن الحجاب فرض على الحرائر فقط وليس الإماء..
وكل هذا مما يشتبه علي العقول ويضللها بسبب إستخدام منكري الحجاب لمثل
هذه الآثار بشكل غير منضبط ..ونبدأ من آيات الحجاب في القرآن التي خوطب فيها النساء غير
زوجات الرسول :"وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ
نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
2- "وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ
نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ
مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ"
3- يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن
يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"
وهذا أثر صحيح عن عائشة رضي الله عنها :أن النبي دخل عليها فإختبأت
أَمَة لهم فسأل الرسول هل حاضت؟ فقالوا نعم..فشق لها عمامته..فقال إختمري"..
من تأمل الآيات السابقة يجد أن الألفاظ الواردة في الآيات ألفاظ عامة..تشمل
جميع النساء بغير تخصيص لجارية وحرة..وغير وارد من دلالة الألفاظ تخصيص الحرائر ونزع
الإماء من "نساء المؤمنين"..وإذا ضممنا لها الأثر السابق عن النبي..نجد أن رسول الله
قد أمر الجارية أن تختمر..بل شق لها عمامته..وهذا الفعل من رسول الله له دلالة
كبيرة..لأنه قد نهي عن إفساد المال..ففعله من إفساد عمامته لمصلحة الجارية ومن أجل
طاعتها لربها يدل علي وجوب الحجاب عليها..بل وترجيح وجوب إختمارها علي وجوب حفظ
المال..والنبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم..فأعطي لها من ماله لتختمر..فقد ثبت في حقها إذن أنها من "نساء المؤمنين"..وثبت في حقها وجوب التستر والإختمار..وليس بعد هذه الآيات
الجلية..وفعل رسول الله..دليل آخر يصلح أن يستند إليه المنكرون علي جواز كشف الجارية رأسها..فدلالة الألفاظ
والحديث يدلان بشكل قطعي علي أن الأمة كالحرة في فرض الحجاب..لهذا فقد قال إبن حزم
الأندلسي :"وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد والخلقة
والطبيعة واحدة فكل ذلك في الحرائر والإماء سواء حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء
فيوقف عنده..فالرق وصف عارض خارج عن حقيقة الأمة وماهيتها ولا دليل علي التفريق
بينها وبين الحرة..وقال إبن تيمية :العلة في النظر خوف الفتنة ولا فرق في هذا بين
النساء الحرائر والنساء الإماء..
هذا ما أردنا تقريره في البداية قبل مناقشة أوهام المنكرين..فقد
ورد في طبقات إبن سعد سبب نزول آية الحجاب "ذلك أدني ان يعرفن فلا
يؤذين"..أن رجلاً من المنافقين كان يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له
؟؟ يقول كنت أحسبها أمة..فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من
جلابيبهن"..وهذا حديث لا يصح..بل هو ضعيف جداً..فهو حديث مرسل..قائله لم يدرك
عصر النبوة أصلاً..كما أن بسنده ابن أبي سبرة وهو متهم بالوضع في الأحاديث فهوكذاب
أشر..ثم في سنده الواقدي وهو ضعيف جداً ومتهم بالوضع أيضاً..وقد إغتر كثير من
المفسرين بهذه الأحاديث الضعاف فقيد تفسير لفظ "نساء المؤمنين" بالحرائر
دون الإماء..وبنوا عليه أنه لا يجب على الأمة ما يجب على الحرة من ستر الرأس
والشعر..وبالغ بعضهم وقال أن عورة الأمة كعورة الرجل..وهو أمر فاسد لا
محالة..فالفتنة بالإماء في الأساس أكبر وأكثر من الحرائر..لهذا قال إبن حزم
الأندلسي :وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى : "يدنين عليهن من جلابيبهن
ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك لأن الفساق
كانوا يتعرضون للنساء فأمر الحرائر بأن
يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضون لهن..ونحن نبرأ من هذا
التفسير الفاسد..الذي هو إما زلة عالم..أو وهلة فاضل عاقل..أو افتراء كاذب فاسق..لأن
فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين..وهذه مصيبة الأبد..وما
اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة..وأن الحد
على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق..وأن تعرض الحرة في التحريم
كتعرض الأمة ولا فرق..ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله
إلا بأن يسنده إليه..إنتهي
وقد وردت أحاديث لرسول الله مما أسيئ إستخدامه أيضاً كالآتي:
1-إِذَا
زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ- عَبْدَهُ، أَوْ أَجِيرَهُ -فَلَا يَنْظُرْ إِلَى
مَا دُونَ السُّرَّةِ، وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ
2-إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، فَلَا يَنْظُرْ إِلَى
عَوْرَتِهَا
3-وَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ أَوْ أَجِيرَهُ
فَلَا تَنْظُرُ الْأَمَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ؛ فَإِنَّ مَا تَحْتَ
السُّرَّةِ إِلَى رُكْبَتِهِ مِنَ الْعَوْرَةِ..
وقد إستدلوا بهذه الروايات علي أن عورة الأمة من السرة إلي
الركبة..وهوكلام مردود تماماً..فالرواية الثانية وهي التي ذكرت فيها الأمة هي
رواية لا تصح ولا تثبت فلا يصح الإستدلال بها..وبفرض صحتها فهي لا تذكر أن العورة
من السرة للركبة..بل فيها نهي لسيدها أن ينظر إلي عورتها مرة أخري بعد زواجها كما
كان يفعل قبل زواجها..والرواية الأولي تنهي عن نظر العبد إلي عورة سيده ونظر السيد
إلي عورة عبده وهي من السرة للركبة وليس في الأمر ذكر للأمة وليس هناك أي دليل
لجمع الرواية الأولي بالثانية خاصة أن الثانية لا تثبت..أما الثالثة فهي حاسمة في
الموضوع لأنها تنهي الأمة بعد أن تزوجت عن النظر إلي عورة سيدها كما كان مباحاً
لها عندما كانت ملك يمينه..وقد أسقط بعض العلماء الروايات الثلاثة علي بعضها
ليخرجوا بإستنتاج أن عورة الأمة من السرة للركبة وهو قول غير صحيح كما بيناه..فليس
في الأمر إجماع كما إدعي بعض العلماء..بل الأمر فيه خلاف كبير..وعلي التحقيق
وبجمع ما صح من الأدلة نجد أن الأمة عورتها أمام الأجانب عنها كعورة الحرة..وقد
تكلم في الأمر غير إبن حزم وإبن تيمية كثيرون مثل البيهقي والتوحيدي وغيرهم..
بقي لنا الشبهة الأخيرة وهي ما ورد عن "عمر إبن الخطاب" و "عبد
الله إبن عمر" من آثار تشير إلي أن الأمة عورتها مخففة عن عورة الحرة..مما
يدل علي أن الحجاب بزعم المنكرين كان رمزاً سياسياً إقتضته الحاجة والزمن لفصل
الحرائر و تمييزهن عن الإماء..وهي كالأتي
1-ما روي عن أن "عمر" كان يطوف فى المدينة فإذا رأى أمة
محجبة ضربها بدرته حتى يسقط الحجاب عن رأسها ويقول :فيم الإماء يتشبهن بالحرائر
قال أنس "مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال
يالكاع أتتشبهين بالحرائر ألقى القناع"
وروى أبو حفص أن "عمر كان لايدع أمة تقنع فى خلافته"
و روي أن "عمر" ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة وقال إكشفى
رأسك ولاتتشبهى بالحرائر..
2- يروى عن أنس بن مالك "إماء عمر كن يخدمننا كاشفات عن شعورههن
تضرب ثديهن"
3- ماورد عن إبن عمر أنه كان يضع يده بين ثديي الأمة في السوق وينظر
إلى بطنها وينظر إلى ساقيها أو يأمر به قبل شرائها..
و مر "إبن عمر" على قوم يبتاعون جارية فلما رأوه وهم يقلبونها
أمسكوا عن ذلك فجاءهم "بن عمر" فكشف عن ساقها ثم دفع في صدرها وقال
اشتروا..قال معمر وأخبرني بن أبي نجيح عن مجاهد قال وضع "إبن عمر" يده
بين ثدييها -وفي رواية صكها في صدرها- ثم هزها..يريهم أن ذلك مباح..
إن الناظر المتأمل للآثار الواردة عن النبي وعن الصحابة ثم الآثار
التي وردت عن "عمر إبن الخطاب" يكتشف أن الآثار تقول "كان عمر في
خلافته" أو تقول "كان عمر يجوب
المدينة " أو تقول "مرة ضرب عمر جارية لآل أنس" أو تقول "كانت
جواري عمر"..فالأمر كله في الحقيقة محصور بل و مقتصر على "عمر إبن الخطاب"..وليس مشتهراً عند الصحابة ولا من فعل الرسول..ولو
كان الأمر مشتهراً في الصحابة من أيام الرسول لما كان لنقله عن "عمر" أي
معني..ولما نقل عن "عمر" أصلاً..وما الداعي لتخصيص "عمر"
بالنقل إذا كان الأمر حادث في كل بيت ومع كل خليفة..كذلك ما ورد عن "إبن عمر"
من لمس الإماء وكشفهن في الأسواق للبيع والشراء..لم ينقل إلا عن "إبن عمر"
فقط..بل الذي نقل الأثر قال أنهم عندما رأوه كفوا أيديهم..مما يعني عدم إشتهار
الأمر وشيوعه بين أهل السوق مع الجواري..بل يدل على أن المشهور الشائع بين الناس
هو المنع من ذلك..إذن فمدار الآثار كلها ومحورها هو "عمر..وإبنه"..من
هنا فإننا نقول أن القرآن والسنة القولية والفعلية المنقولة عن النبي "محمد"
هما طبعاً الأصل في الموضوع..وهما المنبع الذي ننقل منه ونأخذ عنه..والكتاب والسنة مخالفان تماماً لفعل "عمر" وإبنه..لا سيما وإن
الآثار تدل علي إجماع الصحابة وإشتهار الأمر بينهم بما يخالف فعل "عمر وإبنه
عبد الله"..فلا إشكال إذن..ولا توجد حجة لمنكري الحجاب وتغطية الرأس فيما نقل
عن عمر ولا إبنه في إنكار تغطية الرأس للإماء..لأن الأمر كما إتضح الآن لا يعدو كونه إجتهاد من "عمر" إن أصاب فيه فله أجران وإن أخطأ –وهذا ما نظنه-فله
أجر..هذا ما يجب أن نقرره أولاً..ثم بعد ذلك نناقش أسباب ما فعله "عمر إبن
الخطاب "رضي الله عنه..
لأن "عمر" من أفقه الصحابة وأكثرهم إجتهاداً..وعلي
مدار مدة النبوة وإسلامه..كان دائم الإجتهاد..صاحب نظرة متأملة متفقهة..يخرج بأحكام
يصيب في بعضها ويخطئ في بعض..فهو غير معصوم..وقد كان إجتهد من قبل في مسألة الحجاب
الخاص بأمهات المؤمنين..وطلب ذلك من النبي بغير وحي..وكان يري أنه يجب أن تختص
أمهات المؤمنين بالحجاب الكامل عن البر والفاجر سواء بسواء..وقد وافق الوحي
رأيه..وقد كان يري أن بزوال علة قصر الصلاة -المذكور في القرآن-وهي الخوف..يجب أن
يُنسخ الحكم بقصر الصلاة..لأن زوال الحكم يكون بزوال العلة..فلم يوافق الوحي رأيه
وقال النبي له تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فلا تردوا صدقة الله..فليس دائماً
يزول الحكم بزوال علته..وكان "عمر" يري تأديب الرجل الذي يطلق زوجته بلفظ "أنتي
طالق ثلاثا" بأن يمضي الطلاق كأنه طلقها ثلاث مرات..أي أنها تحتاج لمحلل لكي
تعود له..برغم أنه طلقها مرة واحدة بلفظ الثلاث..تأديباً للناس علي التساهل في
الطلاق..وقد ظل العمل بهذا الحكم ل"عمر" وكان الإجماع عليه إستناداً
لقول "عمر"..حتي عصر الفتوي الحموية ل"إبن تيمية" والتي خالف
فيها "عمر" وقال إن الدليل من الكتاب والسنة علي عكس هذا..وهكذا نري أن "عمر"
كان له من الأراء والإجتهادات ما يراها وحده بإجتهاده..مراعاة لوقته وزمنه..وكان هو
ولي الأمر ومسؤول عن رعيته..فكان يجتهد برأيه..جزاه الله عن رعيته خير جزاء..ومن
تمام العلم بفقه "عمر" في مسألة الحجاب للأمة والحرة يجب الإلمام بشئ من
المواقف في حياته وخلفية مجتمع الجواري في ذلك الزمان..و بإختصار شديد..نبدأ من
موقف حدث مع "عمر بن الخطاب" عندما أراد يوماً أن يذهب لبيته لحاجة
له..فلما هم أن يدخل وجد إمرأة عليها جلباب متقنعة به..فرجع..ولما عاد وسأل أهل
بيته من تلك المرأة التي عنتنا اليوم -أي التي منعتنا من الدخول-فقالوا له ما كان
عليك منها..إنها أَمَة لفلان..فلما رجع قال "أيها الناس لا تشبه الأمة بسيدتها"..
فهذه أَمَة في عهد "عمر" كالإماء اللاتي يروي عنه ضربهن..كانت
متقنعة بالجلباب..محتجبة تماماً فلم يعرفها "عمر" وهذا دليل علي شيوع
الأمر في عهده باحتجاب الإماء..ولم تهرب الأمة منه عندما رأته..ولا خلعت قناعها..ولكنه إمتنع عن الدخول إلي بيته حرصاً منه وأدباً
في أن يدخل البيت وبه إمرأة أجنبية عنه وهذا من تمام حرصه -رضي الله عنه- بل من
جملة أخلاق الصحابة رضوان الله عليهم..أما لو عرف أنها أمة فالأمر يختلف..فكما
قالت له إمرأته "لا عليك منها إنها أمة لفلان"..وليس هذا طبعاً تحقيراً
من شأنها..ولكنها هذه هي طبيعة التعامل مع الإماء في تلك العصور..فالأمة والعبد هما
من متاع البيت..وهم ملك شخصي للناس فهم من الأموال المملوكة..لأنهم كانوا يتخذوا
من أجل المهنة والعمل والبروز والإحتكاك بالناس وأداء الواجب وخدمة المنزل والدابة
والسوق..فالدخول والخروج منهم وعليهم لم يكن أمراً محظوراً..ما إلتزمن الحجاب كما
فعل النبي مع الأمة عند عائشة رضي الله عنها..
ومن تمام المعرفة أيضاً نذكر موقف ل"هند بنت عتبة" عندما
بايع النبي نساء مكة علي أن لا يزنين..فقالت له هند بإستنكار شديد.."أوتزني
الحرة؟؟"..من هنا نعرف أن الفرق بين الأحرار والإماء في العمل والتصرف
والأخلاق في ذلك الزمان كان كبيراً..فكان الزنا مما لا يتصور أن تفعله الحرائر..وكانت
الإماء هن مظنة الفواحش وليس الحرائر..فالنظرة للإماء في كل أنحاء العالم كانت
تختلف عن الحرائر..وكان عيباً في المرأة الحرة أن تتصرف تصرفاً ينسب للإماء..أو
ترتدي زياً يشبه الإماء..أو ترفع صوتها بين الناس كالإماء..أو تبرز وتختلط بالرجال
في الأسواق كالإماء..كما كان يشينها أن تسبي في الحرب وتصير أمة..تبرز وتستخدم في
مهنة البيوت..
كما أن في عهد "عمر" تحديداً قد كثرت الفتوحات للروم والفرس
وكثرت الجواري والعبيد..فكان لؤلؤة المجوسي-قاتل "عمر"-عبداً فارسياً
ولم يكن مسلماً..وكانت اليهود والنصاري والمجوس بكثرة..منهم العبيد والجواري..وكان"عمر"يكره كثرتهم في المدينة..وعندما طعنه "لؤلؤة" متخفياً في الصلاة بين المسلمين..قال"عمر" ل "إبن عباس"وهو ينزف تأنيباً له "قد كنت أنت وأبوك تحبون كثرة العلوج بالمدينة"..فكان
"عمر" حاداً جداً في مسألة الإختلاط والتزوير والتداخل بين المسلمين
وغيرهم..حرصاً علي مجتمع المسلمين في بداية إختلاطهم بالأجناس الأخري والديانات
الأخري وهم حديثو عهد بجاهلية..فكان إجتهاده -رضي الله عنه- عندما تولي الخلافة
وتوسعت الدولة وفتحت الفتوحات..هي إستخدام بعض الوسائل كالملبس للفصل بين الحرة
والأمة..ولم نسمع أن "عمر" فعل هذا في عهد النبي ولا في عهد "أبي
بكر"..رغم قوة "عمر" وجرأته في إتخاذ المواقف في عهد النبي و أبي
بكر..إلا أن إجتهاده هذا كان لاحقاً في عهده فقط.. فاستحدثه ولم يكن الأمر معهوداً..كما
أنه لم يستمر بعده..فلم يحدث هذا في عهد "عثمان" ولا ما تلاه من عهود..بل
إن الأمر في عهد "عمر" نفسه –كما تدل الآثار-لم يكن كثير الحدوث..فإن "عمر"
يروي عنه ضرب الإماء علي التشبه بالحرائر..ولكن هذا لم يمنع الجواري من
الحجاب..ولو كان هذا المنع في عهده منتشراً..لما إحتاج إلي ضرب جارية كلما
قابلها..أو كان يفترض بهن أن يخلعن حجابهن كلما رأينه..ولكن الحق أنه كان يأمرهم بهذا
أمراً بغير عزيمة..فلم يكن يضرب "عمر" أحداً بدرته إلا وكزاً
خفيفاً..وليس كما يتبادر إلي أذهان الناس أنه كان يبرحهم ضرباً..بل كان الأمر
وخزاً..ولم يكن يضرب الجواري إلا تأديباً وتذكيراً وزجراً..فمن رآها متقنعة أي تداري الوجه..ضربها
لخلع القناع وإبراز الوجه فقط ويقول لها لا تتشبهي بالحرائر..ومن رآها تداري رأسها
يخلع عن رأسها ويقول لا تشبهي بالحرائر..هذا ما تدل عليه الآثار..فالعلة عند "عمر" هي التأديب علي التشبه بالحرائر وليس علي ستر الزينة..لذا فإنهن كن يواجهنه بأقنعتهن وحجابهن ولا يهربن منه..ومن الواضح أنه لم يكن
يلبث "عمر" أن يختفي من الطريق حتي يعودوا سيرتهم الأولي مرتدين
القناع والخمار..فالأمر لم يكن فرضاً عليهم ولكنه إجتهاد لم يعزم "عمر"علي
أحد بفعله..بل كان ينصح به فقط..وإلا لكان "عمر" أمر بهذا في الناس علي
المنابر..أو بعث في الناس منادياً بهذا الفعل لو كان فعلاً من أوامر الله التي
لابد لها من النفاذ ولو كره الناس..هذا هو المعهود من فعل عمر إبن الخطاب..
وكان إجتهاده-وهو ما أخذه بعض العلماء من بعده وليس كلهم-أنه ما أن
تزول مظنة الفتنة أو رجاء النكاح من المرأة حتى يرخص لها في وضع الثياب غير متبرجة بزينة مع أفضلية الحجاب تعففاً وتطهيراً لقلبها..كالقواعد من النساء
"والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن"..فكان ينزل الجواري منزلة القواعد من النساء..لأنه رأي أنه لا فتنة تخشي منهن..لذلك كان إذا حضر عنده بعض الصحابة
وأراد أن يخدمه الخدم فإنهن كانوا يخرجون علي أصحابه لخدمتهم بنفس ما كانوا
يرتدينه في المنزل من ثياب المهنة..فكان منهن من تكن مكشوفة الشعر بأمر من "عمر"
ليري أصحابه تنفيذاً عملياً لإجتهاده..ولو كان الأمر كذلك في بيوت باقي الصحابة
لما نقلوه عن خدم عمر..فالأمر خاص به وحده..ولم يفعله قبله ولا معه ولا بعده
أحد..فليس فيه حجة علي الإطلاق..أما كلمة "شعورهن مكشوفة تضرب ثديهن" فتفسيرها هو أن شعورهن كانت طويلة متدلية علي الصدر تصل للثدي..أو أن الضفائر هي
التي كانت مكشوفة من تحت الخمار لا يحرصن على إخفائها فتصل إلي الثدي..أما تفسيرها
بأن الثدي كان مكشوفاً..فهذا تفسير منكري الحجاب من أصحاب الأهواء المتهتكين
المفترين الكذب علي "عمر" رضي الله عنه ممن كتب علينا أن نحيا معهم في عصر واحد..وهو تفسير لا يقول به طفل صغير
يعرف يمينه من شماله في اللغة فضلاً عن الشرع..فكما رأينا الأمر لم يكن يعدو
إجتهاداً من "عمر" لم يحدث قبله ولم يمشي عليه أحد بعده..إلا بعض
العلماء الذين إتخذوه سبباً في القول بتخفيف العورة للأمة..وهو كلام نظري لم يشاهد
عملياً إلا في عصور التهتك والخذلان التي مرت بها الدولة..
كذلك كان فعل "إبن عمر" مع رجال تركوا لمس الجواري عندما
رأوه فلمسها وقلب فيها أمامهم ليعرفهم فتواه بأنه مباح..وهو أمر لم يفعله أحد قبله
ولا بعده ولا عرف أو نقل عن أحد غيره..فليس فيه أيضاً حجة لأصحاب الأهواء منكري
الحجاب و ستر عورات النساء..كما أن الروايات تفسر بعضها..فهو كان يضع يده بين ثدييها ضرباً..أو صكاً وليس مسحاً..أو لمساً لثديها والعياذ بالله..فمن يعرف إبن عمر وسيرته يعرف كيف يتصرف..ولكنها أيضاً من طرق التعامل مع العبيد والإماء..فهم أموال مملوكة ستدخل البيت وتختلط بالزوجة والأبناء..وكانوا لابد لهم عند الشراء من التأكد من سلامة هؤلاء الداخلين علي البيت والأبناء من الأسقام والأمراض الباطنة والظاهرة كالجلدية مثلاً..وعدم محاولة معرفة سلامة العبد والأمة من الأسقام هو كشرائنا اليوم أي بضاعة بغير التأكد من سلامتها وأنها غير مغشوشة أو فاسدة..
وفي النهاية أريد أن أوضح أمراً عجيباً من عجائب الزمان..فإن المنكرين
للحجاب يقولون بأن هذه الآيات في القرآن لا تدل علي التخمر وتغطية الرأس..ثم إذا
أرادوا الهجوم علي الحجاب بالآثار تجدهم يقولوا أن الخمار وتغطية الرأس إنما فرضت
علي الحرائر..وليس الجواري..وكان فرضاً لازماً لوقت معين..وزال بزوال هذا الزمان..فلم
نعد نعرف هل يرونه موجوداً في النصوص أم لا..وهل يجدونه فرضاً أم لا..وهذا هو حالنا دائماً معهم..وهو حال
المجادلين علي كل حال..فهم دائماً ما يسقطون في التناقض والإزدواجية..نسأل الله
العافية من الفتن..وأن يقبضنا إليه علي الطاعة..وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين