تقف في طريق السنة النبوية المدونة -في نظر
الحمقى والمغفلين- كذبة لفقوها ودلسوها وأكثروا من اللغو بها كثيراً حتى جاء كبير
الحمقى والذي وضع لها اللمسات الأخيرة و قدمها
للناس سماً في العسل..وجعلها معضلة لتلتبس على الناس..المشكلة أنها إلتبست على بعض
الناس فعلاً..ممن قل علمهم وفهمهم وتشابهت مع البحيري وأمثاله قلوبهم..فتوجب علينا
إزالة الإلتباس..وإظهار التدليس والكذب ووضع الترياق لذلك السم المدسوس..
يقول البحيري أن "الضابط الأخلاقي"
هو أمر فطري نشعر به ونلمسه وننتظره من أي دين كائناً ما كان..وإذا خالفت التعليمات
الواردة في الكتاب السماوي هذا الضابط فإننا نرفضها كدين وتجعلنا نجزم بعدم وروده
من عند رب العالمين..كقوله تعالى وبالوالدين إحساناً..وأنه لو كان بالوالدين
إجحافاً..لقلنا مستحيل..إنه ليس بدين وليس هذا النص من عند رب العالمين..وهكذا
فإننا يجب أن نعرض النصوص التي وردت في الحديث على "الضابط الأخلاقي"
وما تعارض معه رفضناه..إعلاءاً للقيم الأخلاقية العليا التي جاء بها الدين..كل
دين..
إننا هنا إذ نرد على هذا "العك"
فإننا نتعرض لجوهر حقيقي في مشكلتنا في هذا الزمان وهي المشكلة التي نشأت من عوامل
عديدة أهمها التبشير المسيحي..وتبنتها المؤسسات التي أخذت على عاتقها تنفير الناس
من الإسلام وربما كانت هي الموجه الرئيسي لكل هجوم على الإسلام ورميه بأبشع
الصفات..
الذي يجب أن نفهمه ونستوعبه جيداً هو أن
الديانة المسيحية ليست ديانة مستقلة بذاتها..بل هي ما جاءت إلا إصراً وضع على بني
إسرائيل الذين خالفوا التوراة..الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض..وأقاموا حدود
الله على الضعيف وعطلوها على الوجيه..وفشا فيهم الزنا وفي كبرائهم فعطلوا حد الرجم
عن أكابرهم..وأقاموه على صغار الرعية..وإستحلوا الربا..وكتموا الحق وهم
يعلمون..وجعلوا العلم بالكتاب بين مجموعة منهم ليمتنع القول بإسم الرب على
غيرهم..ولا يفتضح أمرهم..فجاء "عيسى إبن مريم" واضعاً الإصر عليهم..فكان
الإصر هو التسامح القهري بأمر إلهي تأديباً لنفوسهم الضالة القاسية الظالمة..فمن
ضربك على خدك فلا تقتص منه بل أعطه خدك الآخر ليضربك مرة أخرى..من لعنك فباركه..من
أساء إليك فلتسامحه..من ثبت عليه الزنا فلابد من الحد ولكن لأنه لا أحد بلا
خطيئة..فكيف تعاقبه وأنت لا يُعلم حالك..وإذا كان الحاكم ظالماً فلا تواجهه..وإقبل
هذا الظلم..فإن ما لله لله..وما لقيصر لقيصر..فلا تدخل من الله في شأن قيصر..(ولا
يخفي هنا جذور العلمانية وفصل الدين عن الدولة والحكم..وهي قضية أخري نعالجها في
مكان آخر ليس هنا موضعه..)
هذا هو الإصر الذي وضع عليهم..ويمكننا أن
نتخيل كم هو من الثقل بمكان..فرفضه بنو إسرائيل ولم يؤمن بالمسيح غير 12
تلميذ..وعندما آمن بعد ذلك من الناس بالمسيحية من آمن لم يكن هناك طريقة للفكاك من
الإرتباط بين التوراة و المسيحية لأن عيسى عليه السلام لم يأت بتشريع..بل قال أنه
مصدق لما بين يديه من التوراة..وأنه مكمل لشريعة موسى وليس ناسخاً..ووقعوا في حيرة
كبيرة..ففي التوراة الحدود والقتال وإقامة الشريعة في الناس والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والقصاص في الجروح والقتال..وكان فيها أن النفس بالنفس والعين
بالعين والأذن بالأذن..وأن الجروح قصاص..كلٌ يُسأل عنه ولي الأمر الحاكم بإسم
الشريعة..وعلي النقيض هناك أيضاً الإصر القائم بذاته في الإنجيل" التسامح
القهري"..وهنا نسأل هل كانت القيم الكلية والمقاصد الشرعية و"الضابط
الأخلاقي" في التوراة مناقضاً لما جاء به الإنجيل..أم كانت القيم الأخلاقية
واحدة..طبعاً هناك تناقض واضح..بين قوم كتب عليهم القتال والقصاص في الجروح
والقتلى..وقوم فرض عليهم التسامح والمباركة مهما كانت الجرائم والذنوب..فأي ضابط
قد تعرض عليه الشريعتان..وإذا إتفقت إحداهما مع ضابط أخلاقي معين فهل تنتفي صفة
الديانة والشريعة عن الأخري..؟؟أو سؤال أوضح وأصرح هل فعلاً موضوع الضابط الأخلاقي صحيح أم أنه كلام فارغ؟؟
لما جاء النبي" محمد" بالشريعة
الكاملة الخاتمة..نسخ كل ما قبله من الشرائع..ورفع الإصر عن العالمين..وأصبح
التسامح ليس قهرياً وإنما إختيارياً..وأعطى له أجراً عالياً..لأنه لازال تقويماً
عنيفاً للنفس..من تحمله فله أجر عظيم..ومن لم يتحمله –وهي طبيعة البشر-ليس عليه أي
لوم..فليقتص لحقه..لترضى نفسه وتستقيم حياته..وحياة مجتمعه..فلا يحمل الضغينة لهذا
المجتمع الذي يحيا أفراده حياتهم في سعادة وهو بينهم مهضوم..وهذا هو ما يتفق مع
فطرة البشر..فهذا هو الضابط الأخلاقي الفطري..وجاء الإسلام بنسخ القول "ما
لله لله وما لقيصر لقيصر"..فقيصر يحكم –كما في التوراة وفي كل شرائع السماء-
بشرع الله على الأرض ويقيم حدود الله ويفرض بسلطانه الحق والعدل ويتقي الله في
الرعية..فإن جار أو تعدى أو ظلم فتقومه الرعية..ولا تستسلم له ولا تباركه..فقيصر
واحد من البشر وليس إلاهاً..إن طُلب من الناس الإيمان فمطلوب منه هو الآخر..وليس
عليه أن يخسر آخرته من أجل إصلاح دنيا الناس..فعليه ما على كل واحد من
الناس..تطبيق شرع الله في الأرض..وليس ما قاله عيسي من "ما لقيصر لقيصر" نسخاً لحكم الله بل كان مثالاً مضروباً لبني إسرائيل جدلاً لما أرادوا إحراجه بشريعة موسي ووضعه أمام المدفع مع قيصر الذي يعاديه وعلي إستعداد لقتله..الحاصل هنا أن جماهير النصارى إستحبوا العمى على
الهدي..وإستحبوا الإصر ديناً..فلم يؤمنوا بالإسلام..
نعود للتبشير النصراني..الذي أخذ على عاتقه مهمة
التبشير بطريق غير شريف..فلأن العقل يرفض عقيدة الصلب والفداء..ولأن الجعبة خالية
ليس فيها ما يغري الناس بالدخول في المسيحية..فإنتهجوا منهج التنفير من
الإسلام..وجعلوا الطريقة هي التلاعب بمشاعر الناس لا سيما الذين أرهقتهم الحياة
والحروب بعد الحرب العالمية الأولى والثانية..وإستهلكت حياة الملايين من البشر حتى
إنتهج الناس الفلسفة الوجودية..رفضاً للموت..والإندفاع في حروب همجية ثمنها الموت
من أجل رغبات القادة في الغرف المغلقة بعيداً عن الرعب في ساحة المعركة والدمار في
البيوت والنفوس..وإندفاع الناس كرد فعل بعد الحرب على الحياة الصاخبة بكل ما فيها
من متع ومجون وإنطلاق بلا قيود..فطرح التبشير النصراني منهج التسامح والدعة
والإستكانة ومباركة اللاعنين..كفطرة إنسانية وطبيعة خُلق عليها البشر..وأن يترك ما
لله لله وما لقيصر لقيصر..وأن الحرية في الدنيا مكفولة للجميع وأن هذا ما تدعو
إليه الفطرة البشرية..فلقيصر أن يفعل ما يشاء ولن أسأله..ولي أن أفعل ما أشاء ولا
يسألني..ولا يعاقبني..فليس هو ربي..بل إن ربنا أمرنا بالتسامح..ومن كان بلا خطيئة
فليرمها بأول حجر..هكذا دس للناس السم في العسل..
فهل هذا حقاً هو الضابط الأخلاقي الفطري..؟؟
مبدأياً يجب أن نعلم أن الإنسان خلق ضعيفاً
ظلوماً جهولاً.."وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً"..فالأصل في
الإنسان الظلم والجهل والعدوان والعجلة..فالضوابط الأخلاقية ليست فطرية..وإن كان
منها ما هو فطري فهي حب الذات ودرء المفسدة وجلب المنفعة..والقصاص في
الجروح..والقصاص في القتل..والضرب على يد العابث المفسد في حياة الناس..وليس "الضابط
الأخلاقي" هو أنني إن وجدت من يسرقني..أتركه بلا عقاب..ومن عبث في أرضي
فساداً أتركه بغير حساب..أو من حارب وأفسد على الحاكم رعيته..يترك بلا تأديب بدعوى
حرية الفهم والإعتقاد والتسامح..إن مثل هذا الكلام هو الإصر بعينه لأنه مخالفة
لفطرة البشر وما فطرنا الله عليه من خلقة..لا تشفى الصدور إلا بعد الإنتقام من
الظلم..ولا تهدأ النفس حتى ترتوي من القصاص بعد الجرح..هذا هو الضابط
الأخلاقي..فليست الضوابط الأخلاقية هي أمر فطري جبلي من التسامح والهدوء
والدماثة..ولكننا الآن في عصر الهوان..فمن إعتدى علينا فاوضناه وأحلنا عليه
المجتمعات الدولية لتحاربه عنا..بدعوى أننا دعاة سلام..وهذا طبعاً كلام فارغ..إنما
نحن في صغار وهوان وضعف وحب الدنيا وكره للقتال..فليس معنى أن الإسلام دين
سلام..أنه ليس لديه شوكة يضرب بها على أيدي الطغاة..أو لا ينتقم لنفسه..أو لا يقتص
لجرحه..أو لا يتقدم لضرب الظالم في بيته بعد أن يعلن عليه الحرب..إنهم يريدون
الإسلام ينتظر في دياره مهما أعلنت عليه الحرب..حتى يأتي الظالم ويضربه في
دياره..عندها يكون من حقه القتال دفاعاً..بعد أن مات أفراده..وتكون قتلى المسلمين
هم ضريبة هذا السلام أو هذا الهوان والضياع الذي يدعونه فطرة أخلاقية..
المقصود هنا أن هذه الآصار تسربت إلى الناس
فتربى عند بعضهم أو ربما معظمهم..الهوان الذي أسماه البحيري الضابط الأخلاقي..فهل
الضابط الأخلاقي الذي يتكلم عنه مطلق..أم أنه محدد بقيم معينة..هذه القيم لم تتفق
عليها البشرية..ولكنها فرضت على الناس كضابط بسبب التبشير بأنها هي الفطرة..فلو
شعرتم بشيء من الرغبة في القصاص..وعدم مباركة اللاعنين..فالعيب فيكم..لو ظننتم أن
دينكم يقول أن الحاكم يحكم بالشرع..فأنتم أغبياء تفهمون الأمر خطأ..فما لله لله
وما لقيصر لقيصر..لو أردت القصاص من الظلم فأنت عنيف وسادي ومنحط وغير أخلاقي..ثم
زادت الأمور إنتكاساً فأصبح هذا الضابط الأخلاقي المزعوم هو النموذج والمعيار الذي
تقاس عليه النصوص الدينية في الإسلام..فلو رأيت آية السيف..قلت أن الإسلام يدعو
للإرهاب..هو دين السيف وليس هناك تسامح..ولو رأيت الحدود من الجلد وقطع اليد والرجم-الموجود
في التوراة الغير منسوخ بالإنجيل- قلت إنظر إنهم يتدخلون في قلوب الناس ويريدون أن
ينصبوا أنفسهم آلهة..أليس ما لله لله وما لقيصر لقيصر..أليس كل الناس مخطئ..وعدنا
من حيث بدأنا..أصبحنا كبني إسرائيل الذين أنزل عليهم الإصر..عطلنا حدود الله ليس
لصعوبة إدراك شروطها..وإنما رفضاً لها وإستفظاعاً لتطبيقها..وقبولاً لعقيدة
التسامح..الإصر الذي قبله الضالون قبلنا رفضاً للشريعة الناسخة وليس حباً في
التسامح..وليس لأنه الأقرب إلى الفطرة..فخسروا الشريعة الفطرية..ولم يستطيعوا أن
يتحملوا الإصر..فهم أبعد ما يكون عن التسامح مع الظلمة..وفصلنا الدين عن
الحكم..لأن ما لقيصر لقيصر..وآمنا ببعض الكتاب وكفرنا ببعض..وعطلنا الجهاد ضد
الظالمين الذين يعيثون في أراضينا فساداً أو يعلنوا علينا الحروب..ولعنّا النصوص
التي تقول لنا قاتلوا في سبيل الله..خذوا حقكم بأيديكم..فهو حق لكم..ودعوناها
نصوصاً غير منضبطة أخلاقياً..
الحاصل أن معضلة الضابط الأخلاقي ما هي إلا
كلمات باطل مرتبة ومنمقة يخرجها البحيري وأمثاله من أجل تلبيس الباطل بصورة الحق..وتصوير
النصوص الجهادية والعقابية في الإسلام بصورة السادية والإرهاب..ولو تأملوها لوجدوا
أن حياة الناس لا تستقيم بغيرها..والله هو الأعلم بمن خلق..ولكن ما أسوأ الزمان
الذي نعيش..وما أردأ الأخلاق التي نعتنق..وليس ببعيد عنا أن تزداد علينا الآصار
كلما رضينا بالإصر ديناً وخُلُقاً وإستبدلنا به كل نص صحيح صريح وقلنا "الضابط
الأخلاقي"..ألا لعنة الله على الجبناء.